Thursday, June 26, 2008

تصبحون على وطن




أسوار قاتلة هي جدران هذه الزنزانة. أحسُّ بها تضيَّق كلما مرّ الوقت. لا أعلم كم فات منه لكنّه أطول ما مرّ في حياتي. لا أعلم عدد الكلمات التي نطقتها منذ بداية السجن, لكنّها لا تتجاوز عدد أصابعي.
ليال مرّت لم أسمع فيها صوت انسان...... أيام مرّت لم أر فيها ضوء الشمس, هل اختفت؟ أمازلت أبصر؟ و ما علمي أنا؟
نسيت كيف كان المشي و الكلام ..... نسيت حتى كيف كانت الأصوات, كيف و أنا لا أسمع سوى صرير الباب يُفتح و يُغلق لوضع ما يبقيني على قيد الحياة, و أيُّ حياة هذه؟

ها أنا ذا أُضحي و أمسي سجيناً في وطني, من قِبل أعداء وطني, لدفاعي عنه. اتهموني بحبه و سأضع حبل المشنقة وشاحاً أفاخر به بني آدم.

اعتقلوني لأنّي بقيت ها هنا, و أبيت الإغتراب. اعتقلوني لكوني أنا.... لكوني لبنان. كم أنا أقوى منهم.... بحوزتهم أقوى الأسلحة و ما بحوزتي إلّا قلبٌ مؤمن برب لعروبة لوطن. جرّرت الى الموت و تهمتي الحياة. وضعوني في غرفة, ظلمتها نور شمس لا تغيب, رائحة عفنها رائحة مسكٍ لدم شهيد.

ها هو نهارٌ آخر يمضي و لا أشمُّ فيه رائحة زعتر أمي, و لا خبز أمي, ولا حتى أسمع نداءها. لابد أنَّها أغرقت بحر بيروت دمعاً على فراقي أنا, وحيدها, و كلَّ ما تبقَّى لها من هذه الحياة. أشفق عليها أكثر من نفسي. تُرى هل تصلها رسائلي مع ضوء القمر؟ أتراني في منامها؟ آمل أنَّها لا ترى الحقيقة...آمل أنَّها لا ترى الحال التي وصلت اليها.

لم أستطع تناسي تلك الدموع المنهمرة على وجنتيها بينما كانوا يأخذونني من وسط البيت. كم كان كبيراً و صغيراً في وقتٍ واحد.هو حنان تلك المرأة, نضالها و كفاحها. تلك التي ما لبثت حتى رأتني رجلاً يحمل راية وطنه, رجلاً تعتمد عليه كما اعتمد عليها. ما لبثت حتى أُخذ منها ذلك الصغير. في غضون دقائق, ضاع حلمها كما تضيع الكنوز في البحار..... ضاع و وُضع في سيارةٍ ليذهب الى حيث لا أحد و لا شيء, الى حيث الصمت حوارك و الظلمة دربك. وضع حيث الأحلام تنام و لا تصحو, حيث النور يخبو و لا يعود. أمازالت تقول لي"تصبح على خير".

ماذا حلَّ بالبلد؟ أمازال أبناؤه يتخاصمون؟ ماذا حلَّ بالبلد؟ أمازال يحترق بحقد العِدى؟ أمازالت الحرب قائمة؟ أمازالت الرايات تُرفع و كلٌ يتباهى بقناعٍ أكثر كذباً و خداعاً من الآخر؟ متى سيتعلمون الحياة؟ أبعد أن يتأكدوا أنّ جبال لبنان و أرزه قد احترقت بالكامل؟

و جاء اليوم الموعود...... جاء اليوم الذي أخرج فيه من سجني, و تخرج حبيبتي بيروت من سجنها. جاء اليوم الذي تخرج فيه أمي من قفص أحزانها..... جاء اليوم الذي أعود فيه لأرى ما حلَّ بالبيت و الحجر, و ما حلّ بالحديقة و الأرز..... جاء اليوم الذي أرى فيه الشمس و أنام على حضن أمي بعد رؤية طيبة عينيها وأحسّ دفءهما.

أسرعت قدماي للحاق بقلبي, حتى وصلت الى حيث أهلي و جيراني كانوا يسكنون..... لم أتعرف الى الحي, فقد أضحى ركاما و حطاما كما أضحت الأحداث و الذكريات. هرعت لمنظر بيروت (ست الدنيا) و هي في تلك الحال. هل أصابهم الجنون؟........أين البيت؟...... أين الشارع؟

سألت من في الطريق عن تلك المرأة....أين أجدها؟....كيف أجدها؟. كان جوابهم حقيقة.... لا بل الحقيقة..... الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة الكاذبة. عندها علمت أين مقصدي.

ذهبت الى حيث أكثر الأماكن سلاماً. الى حيث رائحة البارود لا مكان لها. إلى حيث الورد و الصخور... الى حيث أجدها, تلك المرأة, تلك الغالية. لم أستطع الوداع أو حتى رؤيتها و تقبيل يديها.

ذهبت و ذرفت الدموع حتى ظننت أنِّي كفيف, و لو أنَّ الدموع تعيد الغالي لكنتِ الآن شابة يافعة. و لو أنّ السماء أنزلت سعتها مطراً, لما نافست دموعي.

أننت حتى تهيّأ لي انفجار حسراتي و آلامي... حتى أحسست بقلبي و شراييني تعتصر حزني و ألمي. بكيت و أننت حتى ظننت أنّي سأوقظ نيام بيروت رعباً. سنو السجن لا تساوي شيئاً أمام لحظات وقوفي هنا متأملا ما حلَّ بي و بكِ. اعتقدت في قرارة نفسي أني سأحفر لنفسي منزلاً و أنتظر عقارب الساعة....و لكن ماذا يحلُّ بشباب لبنان إذا دفنت أنا شبابي؟

آه يا تلك الحبيبة..... يا كلَّ ما أملك.....بأيِّ عدلٍ و حقٍّ قتلوكِ.

راحل و باق أنا مع كل شروقٍ و غروب. لأحميكِ و باقي الشهداء من "هواة الرثاء"....... لأنكم خالدون كما الأرز في الجبل..... وأقول لكم "تصبحون على وطن".
رقية فاروق طبيلة

No comments:

Post a Comment